الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} قوله تعالى{وجعلوا لله شركاء الجن} هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن. قال النحاس{الجن} مفعول أول، و}شركاء} مفعول ثان؛ مثل {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} قوله تعالى{بديع السماوات والأرض} أي مبدعهما؛ فكيف يجوز أن يكون له ولد. و}بديع} خبر ابتداء مضمر أي هو بديع. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض. وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى. }أنى يكون له ولد} أي من أين يكون له ولد. وولد كل شيء شبيهه، ولا شبيه له. }ولم تكن له صاحبة} أي زوجة. }وخلق كل شيء} عموم معناه الخصوص؛ أي خلق العالم. ولا يدخل في ذلك كلامه ولا غيره من صفات ذاته. ومثله {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل} قوله تعالى{ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو} }ذلكم} في موضع رفع بالابتداء. }الله ربكم} على البدل. }خالق كل شيء} خبر الابتداء. ويجوز أن يكون }ربكم} الخبر، و}خالق} خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب. {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} قوله تعالى{لا تدركه الأبصار} بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته؛ كما تقول: أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس{لا تدركه الأبصار} في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله وحكى عبدالرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده؛ وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة؛ فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في }الأعراف} إن شاء الله. قوله تعالى{وهو يدرك الأبصار} أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار؛ لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال{وهو اللطيف الخبير} أي الرفيق بعباده؛ يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفه؛ أي هدية. والملاطفة المبارة؛ عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في }الشورى} إن شاء الله تعالى. {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} قوله تعالى{قد جاءكم بصائر من ربكم} أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل؛ جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر: يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس؛ كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس. }فمن أبصر فلنفسه} الإبصار: هو الإدراك بحاسة البصر؛ أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. }ومن عمي فعليها} لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى؛ فعلى نفسه يعود ضرر عماه. }وما أنا عليكم بحفيظ} أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل: أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل{بحفظ} برقيب؛ أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان. {وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون} قوله تعالى{وكذلك نصرف الآيات} الكاف في كذلك في موضع نصب؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. }وليقولوا درست} والواو للعطف على مضمر؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل: أي }وليقولوا درست} صرفناها؛ فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه؛ أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما. قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى }نصرف الآيات} نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا؛ فيذكرون الأول بالآخر. فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز. وفي }درست} سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير }دارست} بالألف بين الدال والراء؛ كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس: معنى }دارست} تاليت. وقرأ ابن عامر }درست} بفتح السين وإسكان التاء غير ألف؛ كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون }درست} كخرجت. فعلى الأولى: دارست أهل الكتاب ودارسوك؛ أي ذاكرتهم وذاكروك؛ قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم ومن قرأ }درست} فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. وقرأ قتادة }درست} أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ }دارست}. وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز؛ قال: لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك؛ أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر؛ مثل قوله {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين} قوله تعالى{اتبع ما أوحي إليك من ربك} يعني القرآن؛ أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله. }لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين} منسوخ. {ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل} قوله تعالى{ولو شاء الله ما أشركوا} نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية كما تقدم. }وما جعلناك عليهم حفيظا} أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. }وما أنت عليهم بوكيل} أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم؛ فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} قوله تعالى{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} نهي. }فيسبوا الله} جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه؛ فنزلت الآية. قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو البني عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ }الذين} على معتقد الكفرة فيها. في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع؛ وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول. قوله تعالى{عدوا} أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا }عدوا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا }عدوا} بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع؛ كما قال قوله تعالى{كذلك زينا لكل أمة عملهم} أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر؛ وهو كقوله {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} قوله تعالى{وأقسموا} أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله. فقوله{جهد أيمانهم} أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى قوله تعالى{جهد أيمانهم} قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد؛ فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها؛ لأن قوله }الإيمان} جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات. قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها؛ فقال أبو محمد بن أبي زيد؛ يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله{وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين}. قال ابن مغيث: فجعل من سميناه على القائل{الإيمان تلزمه} طلقة واحدة؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله؛ فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: علي عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد؛ فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك }بالله} فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد؛ فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له؛ إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم. قوله تعالى{قل إنما الآيات عند الله} أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. }وما يشعركم} أي وما يدويكم أيمانكم؛ فحذف المفعول. ثم استأنف فقال{إنها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود }وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون}. وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ }تؤمنون} بالتاء. وقال الفراء وغيره؛ الخطاب للمؤمنين؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون؛ فقال الله تعالى{وما يشعركم} أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. }أنها} بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل{أنها} بمعنى لعلها؛ وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل وقال عدي بن زيد: أي لعل. وقال دريد بن الصمة: أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير }أن} بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب }وما أدراكم لعلها}. وقال الكسائي والفراء: أن }لا} زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت }لا}؛ كما زيدت }لا} في قوله تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} قوله تعالى{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها }ونذرهم في طغيانهم يعمهون}. قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر؛ كما لم يؤمنوا في الدنيا. }ونذرهم} في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم؛ فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون} قوله تعالى{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فرأوهم عيانا. }وكلمهم الموتى} بإحيائنا إياهم. }وحشرنا عليهم كل شيء} سألوه من الآيات. }قبلا} مقابلة؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر. وقيل: معاينة، لما آمنوا. وقال محمد بن يزيد: يكون }قبلا} بمعنى ناحية؛ كما نقول: لي قبل فلان مال؛ فقبلا نصب على الظرف. وقرأ الباقون }قبلا} بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء؛ فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف؛ كما قال {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} قوله تعالى{وكذلك جعلنا لكل نبي} يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك. }عدوا} أي أعداء. ثم نعتهم فقال }شياطين الإنس والجن} حكى سيبويه جعل بمعنى وصف. }عدوا} مفعول أول. }لكل نبي} في موضع المفعول الثاني. }شياطين الإنس والجن} بدل من عدو. ويجوز أن يكون }شياطين} مفعولا أول، }عدوا} مفعولا ثانيا؛ كأنه قيل: جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرأ الأعمش{شياطين الجن والإنس} بتقديم الجن. والمعنى واحد. }يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه؛ ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شيء حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و}غرورا} نصب على المصدر، لأن معنى }يوحي بعضهم إلى بعض} يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال. والغرور الباطل. قال النحاس: وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل }يوحي بعضهم إلى بعض} قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك؛ فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك والسدي والكلبي. قال النحاس: والقول الأول يدل عليه قلت: ويدل عليه من صحيح السنة فأجابها عمر رضي الله عنه: قوله تعالى{ولو شاء ربك ما فعلوه} أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. }فذرهم} أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما بترك. قلت: هذا إنما خرج على الأكثر. وفي التنزيل{وذر الذين} و}ذرهم} و {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} قوله تعالى{ولتصغى إليه أفئدة} تصغى تميل؛ يقال: صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه: صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنىً. قال الشاعر: ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم: مالت للغروب. وفي التنزيل واللام في ولتصغى لام كي، والعامل فيها }يوحي} تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط؛ لأنه كان يجب }ولتصغ إليه} بحذف الألف، وإنما هي لام كي. وكذلك }وليرضوه وليقترفوا} إلا أن الحسن قرأ }وليرضوه وليقترفوا} بإسكان اللام، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما يقال: افعل ما شئت. ومعنى }وليقترفوا ما هم مقترفون} أي وليكتسبوا؛ عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال: خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة: وأصله اقتطاع قطعة من الشيء. {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} قوله تعالى{أفغير الله أبتغي حكما} }غير} نصب بـ }أبتغي}. }حكما} نصب على البيان، وإن شئت على الحال. والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مؤونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين. ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم؛ إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. }والذين آتيناهم الكتاب} يريد اليهود والنصارى. وقيل: من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبدالله بن سلام. }يعلمون أنه} أي القرآن. }منزل من ربك بالحق} أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق }فلا تكونن من الممترين} أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله. وقال عطاء: الذين آتيناهم الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} قوله تعالى{وتمت كلمة ربك} قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. }صدقا وعدلا} أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني، عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها. {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} قوله تعالى{وإن تطع أكثر من في الأرض} أي الكفار. }يضلوك عن سبيل الله} أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. }إن يتبعون إلا الظن} }إن} بمعنى ما، وكذلك }وإن هم إلا يخرصون} أي يحدسون ويقدرون؛ ومنه الخرص، وأصله القطع. قال الشاعر: يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص؛ ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين معه. وسيأتي لهذا مزيد بيان في }الذاريات} إن شاء الله تعالى. {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} قوله تعالى{إن ربك هو أعلم} قال بعض الناس: إن }أعلم} هنا بمعنى يعلم؛ وأنشد قول حاتم الطائي: وقول الخنساء: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه لا يطابق }هو أعلم بالمهتدين}. ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. }من يضل عن سبيله} }من} بمعنى أي؛ فهو في محل رفع والرافع له }يضل}. وقيل: في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقيل: في محل نصب بنزع الخافض؛ أي بمن يضل. قال بعض البصريين، وهو حسن؛ لقوله{وهو أعلم بالمهتدين} وقوله في آخر النحل {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} قوله تعالى{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} نزلت بسبب أناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله؟ فنزلت }فكلوا} إلى قوله {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} قوله تعالى{وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} المعنى ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم. }وقد فصل} أي بين لكم الحلال من الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك. فـ }ما} استفهام يتضمن التقرير. وتقدير الكلام: وأي شيء لكم في ألا تأكلوا. }فأن} في موضع خفض بتقدير حرف الجر. ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله }مالكم} تقديره أي ما يمنعكم. ثم استثنى فقال }إلا ما اضطررتم إليه} يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها وهو استثناء منقطع. وقرأ نافع ويعقوب }وقد فصل لكم ما حرم} بفتح الفعلين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما، والكوفيون }فصل} بالفتح }حرم} بالضم. وقرأ عطية العوفي }فصل} بالتخفيف. ومعناه أبان وظهر؛ كما قرئ قلت: هذا فيه نظر؛ فإن }الأنعام} مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل. والله أعلم. قوله تعالى{وإن كثيرا ليضلون} وقرأ الكوفيون }يضلون} من أضل. }بأهوائهم بغير علم} يعني المشركين حيث قالوا: ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم بسكاكينكم }بغير علم} أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه؛ ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم. {وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} قوله تعالى{وذروا ظاهر الإثم وباطنه} للعلماء فيه أقوال كثيرة. وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أم ونهى؛ وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن؛ كما قال {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} روى أبو داود قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله عز وجل{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} إلى آخر الآية. وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه؛ فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا؛ فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا؛ فقال علماؤنا: لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه؛ إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول{لا تأكلوا} ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول القول الأول: إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا؛ وقال في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، واختاره النحاس وقال: هذا أحسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا. الثاني: إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. وروي عن ربيعة أيضا. قال عبدالوهاب: التسمية سنة؛ فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه. الثالث: إن تركها عامدا أو ساهيا حرم أكلها؛ قال محمد بن سيرين وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة وعبدالله بن عمر ونافع وعبدالله بن زيد الخطمي والشعبي؛ وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية. الرابع: إن تركها عامدا كره أكلها؛ قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا. الخامس: قال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري. أدلة قال الله تعالى قوله تعالى{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله }ولا تأكلوا مما لو يذكر اسم الله عليه} قال عكرمة: عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس. وقال ابن عباس وعبدالله بن كثير: بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبدالله بن الزبير أنه قيل له: إن المختار يقول: يوحى إلى فقال: صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. وقوله{ليجادلوكم}. يريد قولهم: ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة: دفع القول على طريق الحجة بالقوة؛ مأخوذ من الأجدل، طائر قوي. وقيل: هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض؛ فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل؛ فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل. قوله تعالى{وإن أطعتموهم} أي في تحليل الميتة }إنكم لمشركون}. فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا؛ فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد؛ فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص؛ فافهموه. وقد مضى في }المائدة}. {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} قوله تعالى{أومن كان ميتا فأحييناه} قرأ الجمهور بفتح الواو، دخلت عليها همزة الاستفهام. وروى المسيبي عن نافع بن أبي نعيم }أو من كان} بإسكان الواو. قال النحاس: يحوز أن يكون محمولا على المعنى، أي انظروا وتدبروا أغير الله أبتغي حكما. }أو من كان ميتا فأحييناه} قيل: معناه كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه؛ حكاه ابن بحر. وقال ابن عباس: أو من كان كافرا فهديناه. نزلت في حمزة بن عب المطلب وأبي جهل. وقال زيد بن أسلم والسدي{فأحييناه} عمر رضي الله عنه. }كمن مثله في الظلمات} أبو جهل لعنه الله. والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر. وقيل: كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم. وأنشد بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة: وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور والنور عبارة عن الهدى والإيمان. وقال الحسن: القرآن. وقيل: الحكمة. وقيل: هو النور المذكور في قوله {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} قوله تعالى{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية. }مجرميها} مفعول أول لجعل }مفعول ثاني على التقديم والتأخير. وجعل بمعنى صير. والأكابر جمع الأكبر. قال مجاهد: يريد العظماء. وقيل: الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الفتل؛ فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها. قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. }وما يمكرون إلا بأنفسهم} أي وبال مكرهم راجع إليهم. وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم. }وما يشعرون} في الحال؛ لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم. {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} قوله تعالى{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن} بين شيئا آخر من جهلهم، وهو أنهم قالوا لن نؤمن حتى نكون أنبياء، فنؤتى مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات؛ ونظيره {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} قوله تعالى{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} أي يوسعه له، ويوفقه ويزين عنده ثوابه. ويقال: شرح شق، وأصله التوسعة. وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك. وشرحت الأمر: بنته وأوضحته. وكانت قريش تشرح النساء شرحا، وهو مما تقدم: من التوسعة والبسط، وهو وطء المرأة مستلقية على قفاها. فالشرح: الكشف؛ تقول: شرحت الغامض؛ ومنه تشريح اللحم. قال الراجز: والقطعة منه شريحة. وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة. }ومن يرد أن يضله} يغويه }يجعل صدره ضيقا حرجا} وهذا رد على القدرية. ونظير هذه الآية من السنة وربما وضع فوق نعش النساء؛ قال عنترة يصف ظليما: وقال الزجاج: الحرج: أضيق الضيق. فإذا قيل. فلان حرج الصدر، فالمعنى ذو حرج في صدره. فإذا قيل: حرج فهو فاعل. قال النحاس: حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به؛ كما يقال: رجل عدل ورضا. قوله تعالى{كأنما يصعد في السماء} قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخففا، من الصعود هو الطلوع. شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه؛ كما أن صعود السماء لا يطاق. وكذلك يصاعد وأصله يتصاعد، أدغمت التاء في الصاد، وهي قراءة أبي، بكر والنخعي؛ إلا أن فيه معنى فعل شيء بعد شيء، وذلك أثقل على فاعله. وقرأ الباقون بالتشديد من غير ألف، وهو كالذي قبله. معناه يتكلف ما لا يطيق شيئا بعد شيء؛ كقولك: يتجرع ويتفوق. وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ }كأنما يتصعد}. قال النحاس: ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد. والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك؛ فكأنه يستدعي ذلك. وقيل: المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نَبْواً عن الإسلام. }كذلك يجعل الله الرجس} عليهم؛ كجعله ضيق الصدر في أجسادهم. وأصل الرجس في اللغة النتن. قال ابن زيد: هو العذاب. وقال ابن عباس: الرجس هو الشيطان؛ أي يسلطه عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن. فمعنى الآية والله أعلم: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة }على الذين لا يؤمنون}. {وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} قوله تعالى{وهذا صراط ربك مستقيما} أي هذا الذي أنت عليه يا محمد والمؤمنون دين ربك لا اعوجاج فيه. }قد فصلنا الآيات} أي بيناها }لقوم يذكرون} أي للمتذكرين. {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} قوله تعالى{لهم} أي للمذكرين. }دار السلام} أي الجنة، فالجنة دار الله؛ كما يقال: الكعبة بيت الله. ويجوز أن يكون المعنى دار السلامة، أي التي يسلم فيها من الآفات. ومعنى قوله{عند ربهم} أي مضمونة لهم عنده يوصلهم إليها بفضله. }وهو وليهم} أي ناصرهم ومعينهم. {ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قوله تعالى{ويوم نحشرهم} نصب على الفعل المحذوف، أي ويوم نحشرهم نقول. }جميعا} نصب على الحال. والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة. }يا معشر الجن} نداء مضاف. }قد استكثرتم من الإنس} أي من الاستمتاع بالإنس؛ فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر؛ يدل على ذلك قوله{ربنا استمتع بعضنا ببعض} وهذا يرد قول من قال: إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس؛ لأن الإنس قبلوا منهم. والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا بعضا؛ فاستمتاع الجن من الإنس إنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. وقيل: كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر. وفي التنزيل {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} قوله تعالى{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا} المعنى وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض، ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدا. ومعنى }نولي} على هذا نجعل وليا. قال ابن زيد: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وعنه أيضا: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجبا. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} قوله تعالى{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم} أي يوم نحشرهم نقول لهم ألم يأتكم رسل فحذف؛ فيعترفون بما فيه افتضاحهم. ومعنى }منكم} في الخلق والتكليف والمخاطبة. ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال{منكم} وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث. وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي؛ كما قال قلت: وهذا لا يصح، بل في {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} قوله تعالى{ذلك} في موضع رفع عند سيبويه؛ أي الأمر ذلك. و}أن} مخففة من الثقيلة؛ أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم؛ أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم؛ فهو مثل {ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون} قوله تعالى{ولكل درجات مما عملوا} أي من الجن والإنس؛ كما قال في آية أخرى
|